قال: (وقال فضيل: لو قال رجل: مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت).
وهذه قاعدة منهجية، ومعناها أنه ليس شرطاً إذا كان لك رأي أن تقول في كل ما يقال، فبعض الناس يرى أنه لا بد من أن يقول رأيه، وهذا ليس شرطاً، بل قد يكون الحق وقد تكون السنة ألا تتكلم في هذا الأمر، فهذه قضايا مهمة جداً نغفل عنها.
فـالمرجئة كانوا يشيعون بين الناس قولهم: اذهبوا إلى فلان واسألوه: أمؤمن أنت؟ فإن قال: نعم، قالوا: إذاً هو يقول: إنه كامل الإيمان، فهو من أهل مذهبنا ومن أهل ملتنا، وإن قال: لا، قالوا: كيف يشهد على نفسه بالكفر!
فليس شرطاً أنك تخوض في هذه الأمور، بل العلماء في هذه المسائل على أن من يخوض فيها يهجر، فيصبح معلوماً أن من يشيع هذا الكلام في المجتمع هم أهل البدع وأهل الإفساد وأهل الفتنة وأهل الإرجاء، فينقطع دابرها، وإن لم يوضح هذا الحد تجرأ كل أحد وخاض الناس فدخل اللبس وتفرقت الأمة في الدين، وهذا من الحكم التربوية العظيمة، فلو قال لك أحد: أنت مؤمن؟ فلم تكلمه ما عشت وهجرته لم يتجرأ بعد ذلك على أن يسأل، فإذا حصل ذلك هدأت الفتنة وبقي الأمر محصوراً في أهل البدعة، وأهل البدعة تقام عليهم الحجة.
فعلماء السلف رحمهم الله تعالى وضعوا لنا منهجاً في هذه المسألة وغيرها، وهو أنه يجب أن يعرف العالم من يخاطب وبم يخاطب، ومتى لا يتكلم في الموضوع بـ(نعم) ولا بـ(لا) حتى لا تثور مشاكل وفتن بين الناس.
فقد يجيء السائل إلى العالم فيقول له: هل يعذر أحد بالجهل؟ فيقول: لا يعذر، يقصد في ذهنه شيئاً معيناً؛ إذ كيف يعذر أحد في أنه ما عرف الله ووحد الله وهو في بلاد المسلمين وبين المسلمين؟!
فيبني السائل على ذلك أحكاماً وقد يكفر بعض المسلمين وتراق دماء وتنقل الفتوى عن العالم ويقال: إنه يرى ذلك، بالمنظار الذي يراه السائل.
والسائل يقصد أشياء كثيرة ما قصدها المفتي ولا درى أنه يترتب عليها ما يترتب، وإنما قال: لا، وفي ذهنه شيء آخر.
ثم يأتي فيقول آخر: يا شيخ! هل يعذر أحد في الجهل في التوحيد؟ فيقول: نعم؛ لأنه ينظر من زاوية أخرى؛ إذ قد تخفى بعض صفات الله وبعض فروع التوحيد وبعض الأحكام على بعض الناس، فيقول: نعم يعذر حتى يعلم. لكن السائل يأخذها على أن هؤلاء الذين يشركون ويعبدون بجهل معذورون.
فالمعركة قائمة بين هذين النقيضين، فهذا يسأل ويجيب جواباً إجمالياً ينبني عليه ما الله به عليم من الفتن، ثم إذا ظهر الموضوع وضوربت الأقوال قالوا: قال الشيخ فلان كذا، وخالفه الشيخ فلان، وافتعلوا معركة بين الشيخين مع أنه لا يوجد خلاف بينهما، فكل منهما يتكلم ويقصد شيئاً غير الذي يقصد الآخر، ولو جلسا جميعاً ما احتاجا إلى أن يختلفا، ولو سئلا عن صورة معينة من صور الشرك مثلاً لما اختلفا فيها، لكن هكذا تصور الأمور، فيقال: الشيخ الفلاني يميل إلى الإرجاء، والشيخ الفلاني يميل إلى رأي الخوارج ، وهكذا تتضخم المسألة.
ولذلك كان الحل التربوي لكثير من الأمور أن يقال: لا يتحدث ولا يخاض في هذا الموضوع، وإذا كان لا بد من أن تتناول المسألة فلتتناول كلياً بتفصيل كامل، بحيث لا يأخذ أحد جزءاً من الكلام ويدع الجزء الآخر، وإلا كان هذا من التحريف، ومن تحريف الكلام أن يأخذ بعضه ويترك الباقي، وهذا التحريف هو فعل اليهود ونحوهم.
فالسلف الصالح أفقه الناس في التربية وفي التزكية، وأصح الناس رأياً بلا ريب، وأكثرهم صواباً في منهج الدعوة، فهناك أمور كانوا يهجرون من يتكلم فيها لمجرد أنه تكلم، ولذا قال الفضيل لو قال لي أحد: أمؤمن أنت ما كلمته ما عشت، فرضي الله عنهم وأرضاهم. ‏